الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تدريب الرَّاوي في شَرْح تَقْريب النَّواوى ***
تُقبل رِوَاية المُسْلم البَالغ ما تحمَّلهُ قبلهُمَا، ومنعَ الثَّاني قَوْمٌ فأخطؤوا. النَّوع الرَّابع والعِشْرون: كيفية سَمَاع الحديث، وتحمُّله، وصفة ضَبْطه. تُقبل رِوَاية المُسْلم البالغ، ما تحمَّله قبلهما في حال الكُفر والصِّبا. ومنع الثَّاني أي قَبُول رِوَاية ما تحمَّله في الصِّبا قومٌ فأخطؤوا لأنَّ النَّاس قبلُوا رِوَاية أحْدَاث الصَّحَابة، كالحسن، والحُسَين، وعبد الله بن الزُّبير، وابن عبَّاس، والنُّعمان بن بَشِير، والسَّائب بن يزيد، والمِسْور بن مَخْرمة، وغيرهم، من غير فَرْق بين ما تحمَّلوه قبل البُلوغ وبعده. وكذلك كان أهل العلم يُحضُرون الصِّبيان مَجَالس الحديث، ويعتدُّون بروايتهم بعد البلوغ. ومن أمْثلة ما تحمَّل في حال الكُفْر: حديث جُبير بن مُطْعم المُتَّفق عليه: أنَّه سَمِعَ النَّبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المَغْرب بالطُّور. وكان جَاء في فِدَاء أسْرَى بَدْر قبل أن يُسْلم، وفي رِوَاية للبخاري: وذلكَ أوَّل ما وَقَرَ الإيمَانُ في قَلْبي. ولم يجر الخِلاف السَّابق هُنا، كأنَّه لأنَّ الصَّبي لا يضبط غالبًا ما تحمَّله في صِبَاهُ، بخلاف الكافر، نعم رأيتُ القُطب القَسْطلاني في كتابه «المنهج في علوم الحديث» أجرى الخلاف فيه، وفي الفاسق أيضًا. قال جَماعةٌ من العُلماء: يُستحبٌّ أن يَبْتدئ بِسَماع الحديث بعد ثَلاثينَ سنة، وقيل: بعد عِشْرينَ، والصَّواب في هذه الأزْمَان التَّبْكير به، من حين يَصح سَمَاعهُ، وبِكَتْبهِ وتَقْييدهِ حين يتأهَّل له، ويختلفُ باخْتلاف الأشْخَاص، ونقلَ القَاضي عِيَاض رحمهُ الله: أنَّ أهْلَ الصَّنعة حدَّدُوا أوَّل زمن يصح فيه السَّماع بخمسِ سِنينَ، وعلى هَذَا استقرَّ العملُ. قال جَمَاعة من العُلماء: يُستحب أن يبتدئ بسَمَاع الحديث بعد ثلاثين سنة وعليه أهل الشَّام وقيل: بعد عشرين سنة، وعليه أهل الكُوفة. قيل لموسى بن إسْحَاق: كيف لم تكتب عن أبي نُعيم؟ فقال: كان أهل الكُوفة لا يُخرجُون أولادهم في طَلبِ الحديث صِغَارًا حتَّى يستكملوا عِشْرين سنة. وقال سُفيان الثَّوري: كان الرَّجُل إذا أرادَ أن يَطْلُب الحديث تعبَّد قبلَ ذلكَ عشرينَ سنةً. وقال أبو عبد الله الزُّبيري من الشَّافعية: يُسْتحب كتب الحديث في العِشْرين، لأنَّها مُجتمع العقل. قال: وأُحب أن يُشْتغل دُونها بحفظ القرآن والفَرَائض، أي الفقه. والصَّواب في هذه الأزْمَان بعد أن صَارَ الملحوظ إبقاء سلسلة الإسْنَاد التَّبْكير به أي بالسَّماع من حين يصح سماعه أي الصَّغير وبِكَتبه أي الحديث وتَقْييده وضبطهُ حين يتأهَّل له ويستعد و ذلك يختلف باختلاف الأشخاص ولا ينحصر في سِنٍ مخصوص. ونقل القَاضي عِيَاض: أنَّ أهل الصَّنعة حدَّدوا أوَّل زمن يصح فيه السَّماع للصغير بخمس سنين ونسبه غيره للجمهور. وقال ابن الصَّلاح: وعلى هذا استقرَّ العمل بين أهل الحديث، فيكتبون لابن خمس فصَاعدًا سمع- وإن لم يبلغ خَمْسًا- حضر أو أُحضر. وحُجَّتهم في ذلك ما رواه البُخَاري وغيره، من حديث محمُود بن الرَّبيع قال: عَقلتُ من النَّبي صلى الله عليه وسلم مجَّة مَجَّها في وجهي من دَلْوٍ، وأنا ابن خمس سنين. بوَّب عليه البخاري: مَتَى يصح سَمَاع الصَّغير؟ والصَّوَابُ اعْتِبَارُ التَّمييزِ، فَإنْ فَهِمَ الخِطَابَ، وَرَدَّ الجَوَابَ، كانَ مُميَّزًا صَحِيحَ السَّماعِ، وإلاَّ فَلا، وَرُوِيَ نحو هذا عَنْ مُوسى بن هارُونَ، وأحمَدَ بن حَنْبل. قال المُصنِّف كابن الصَّلاح: والصَّواب اعتبار التَّمييز، فإن فهم الخِطَاب، وردَّ الجَوَاب، كان مُميزًا صحيح السَّماع وإن لم ييلغ خمسًا وإلاَّ فلا وإن كان ابن خمس فأكثر، ولا يلزم من عقل محمود المَجَّة في هذا السِّن، أنَّ تمييز غيره مثل تمييزه، بَلْ قد يَنْقُص عنهُ، وقد يزيد، ولا يلزم منهُ أن لا يعقل مثل ذلك، وسنه أقل من ذلك، ولا يلزم من عقل المَجَّة، عقل غيرها ممَّا يسمعه. وقال القَسْطلاني في كتاب «المنهج»: ما اختارهُ ابن الصَّلاح هو التَّحقيق، والمَذْهب الصَّحيح. وروي نحو هذا وهو اعتبار التمييز عن موسى بن هارون الحمَّال أحد الحُفَّاظ وأحمد بن حنبل أمَّا موسى فإنَّه سُئل مَتَى يسمع الصَّبي الحديث؟ فقال: إذا فرَّق بين البقرة والحمار. وأمَّا أحمد فإنَّه سُئل عن ذلك، فقال: إِذا عقل وضبط، فذكر له عن رجل أنَّه قال: لا يَجُوز سماعه حتَّى يَكُون له خمس عشرة سنة، لأنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ردَّ البراء وابن عُمر، استصغرهما يوم بدر، فأنكر قوله هذا، وقال: بئس القول، فكيف يُصنع بسُفيان، ووكيع ونحوهما. أسندهما الخطيب في «الكفاية». فالقولان راجعان إلى اعتبار التمييز، وليسَا بقولين في أصل المسألة، خلافًا للعراقي، حيث فهم ذلك، فحكى فيه أربعة أقوال، وكأنَّه أراد حِكَاية القول المذكُور لأحمد، وهو خمس عشرة سنة. وقد حكاهُ الخطيب في «الكفاية» عن قوم منهم: يحيى بن معين، وحكى عن آخرين، منهم: يزيد بن هارون ثلاث عشرة. ومِمَّا قيل في ضابط التمييز: أن يُحسن العدد من واحد إلى عشرين، حكاهُ ابن المُلقن. وفَرَّق السَّلفي بين العَرَبى والعجمي، فقال: أكثرهم على أنَّ العربي يصح سماعهُ إذا بلغ أربع سنين، لحديث محمود، والعجمي إذا بلغ ست سنين. ومِمَّا يدل على أنَّ المرجع إلى التمييز ما ذكرهُ الخطيب قال: سمعت القاضي، أبا محمَّد الأصبهاني، يقول: حفظتُ القُران ولي خمس سنين، وأُحضرتُ عند أبي بكر المُقرئ ولي أربع سنين، فأرادوا أن يسمعوا لي فيما حضرت قراءته، فقال بعضهم: إنَّه يصغر عن السَّماع، فقال لي ابن المقرئ: اقرأ سورة الكافرين، فقرأتها، فقال: اقرأ سورة التكوير، فقرأتها، فقال لي غيره: اقرأ سورة المُرسلات، فقرأتها ولم أغلط فيها، فقال ابن المُقرئ: سمعوا لهُ والعُهدة عليَّ.
وهو أرفَعُ الأقسَام عند الجَمَاهِيرِ. قال القَاضِي عِيَاض: لا خِلافَ أنَّهُ يَجُوزُ فِي هَذَا للسَّامِعِ أَن يَقُولَ في رِوَايته: حدَّثنا، وأخبرنا، وأنبأنا، وسمعتُ فُلانًا، وقال لنَا، وذكَرَ لنَا. بيان أقْسَام طُرق تحمُّل الحديث هذه ترجمة ومَجَامعها ثمانية أقسام. الأوَّل: سماع لفظ الشَّيخ، وهو إملاء وغيره أي تحديث من غير إملاء، وكل منهما يكون من حفظ أي: للشيخ ومن كتاب له. وهو أرفع الأقسام أي: أعْلى طُرق التحمُّل عند الجماهير وسيأتى مُقابله في القسم الآتي. والإملاء أعلى من غيره، وإن استويا في أصل الرُّتْبة. قال القاضي عياض أسندهُ إليه ليبرأ من عُهدته: لا خِلاف أنَّه يَجُوز في هذا للسَّامع من الشَّيخ أن يَقُول في روايته عنه له: حدَّثنا، وأخبرنا، وأنبأنا، وسمعتُ فلانًا يقول وقال لنا فُلان وذكر لنا فُلان. قال ابن الصَّلاح: وفي هذا نظر، وينبغي فيما شَاع اسْتعماله في هذه الألْفَاظ مخصُوصًا بما سمع من غير لفظ الشَّيخ، أن لا يُطلق فيما سمع من لفظه، لما فيه من الإبهام والإلْبَاس. قال العِرَاقي: ما ذكرهُ عِيَاض، وحكى عليه الإجماع مُتَّجه، ولا شَكَّ أنَّه لا يَجب على السَّامع أن يُبيِّن هل كان السَّماع إملاء، أو عرضًا. قال: نعم، إطلاق أنبأنا، بعد أن اشْتُهر اسْتعمالها في الإجَازة، يُؤدي إلى أن نظن بما أدَّاهُ بها أنَّه إجَازة، فيُسقطه من لا يَحتج بها، فينبغي أن لا يُستعمل في السَّماع لِمَا حدث من الاصطلاح. قال الخَطِيبُ: أرفَعُهَا سمعتُ، ثمَّ حَدَّثَنَا، وحَدَّثَنِي. قال الخَطِيب: أرفعها أي: العبارات في ذلك سمعتُ، ثمَّ حدثنا، وحدثني فإنَّه لا يكاد أحد يقول سمعتُ في الإجازة والمُكَاتبة، ولا في تدليس ما لم يسمعه، بخلاف حدَّثنا، فإنَّ بعض أهل العِلْم كان يستعملها في الإجَازة. ورُوي عن الحسن أنَّه قال: حدَّثنا أبو هُريرة، وتأوَّل حدَّث أهل المدينة، والحسن بها، إلا أنَّه لم يسمع منه شيئًا. قال ابن الصَّلاح: ومنهم من أثبتَ لهُ سَمَاعًا منه. قال ابن دقيق العِيد: وهذا إذَا لم يَقُم دليل قاطع على أنَّ الحسن لم يسمع منه، لم يجز أن يُصَار إليه. قال العِرَاقي: قال أبو زُرْعة وأبو حاتم: من قال عن الحسَن البصري: حدَّثنا أبو هريرة فقد أخطأ. قال: والَّذي عليه العمل أنَّه لم يسمع منهُ، وقاله غيرهما أيوب، وبهز بن أسد، ويُونس بن عُبيد، والتِّرمذي، والنَّسائي، والخَطِيب وغيرهم. وقال ابن القَطَّان: ليست حدَّثنا بنص في أنَّ قائلها سمع، ففي «صحيح» مسلم في حديث الَّذي يقتله الدَّجَّال فيقُول: أنتَ الدجَّال الَّذي حدَّثنا به رَسُول الله صلى الله عليه وسلم. قال: ومَعْلومٌ أنَّ ذلكَ الرَّجل مُتأخِّر الميقات، أي فيكُون المُرَاد حدَّث أُمَّته، وهو منهم، لكن قال مَعمَر: إنَّه الخضر، فحينئذ لا مَانع من سَمَاعه. ثمَّ أخبرَنَا، وهو كَثير في الاستعمَالِ. قال الخطيب: ثمَّ يتلو حدثنا أخبرنا، وهو كثير في الاستعمال حتَّى إن جماعة لا يكادون يستعملون فيما سمعوهُ من لفظ الشَّيخ غيرها. منهم: حمَّاد بن سلمة، وعبد الله بن المُبَارك، وهُشَيم بن بَشِير، وعُبيد الله بن مُوسى، وعبد الرزَّاق، ويزيد بن هَارون، وعَمرُو بن عَوْف، ويحيى بن يحيى التَّميمي، وإسْحَاق بن رَاهُويه، وأبو مَسْعود أحمد بن الفُرَات، ومحمد بن أيوب الرَّازيان، وغيرهم. وقال أحمد: أخبرنا، أسهل من حدَّثنا، حدَّثنا شديد. وكانَ هذا قَبلَ أن يَشِيعَ تَخْصِيصُ أخبَرَنَا بالقرَاءَةِ على الشَّيخ. قال: ثمَّ أنبأنَا، ونَبأنَا، وهو قَليلٌ في الاستِعمَالِ، قال الشَّيخُ: حدَّثنا وأخبرنَا، أرفَعُ من سَمِعْتُ من جِهَةٍ أخرَى، إذ ليسَ في سمعتُ دَلالَة على أنَّ الشَّيخَ رَوَّاه إيَّاه، بِخلافِهمَا. قال ابن الصَّلاح: وكان هذا قبل أن يشيع تخصيص أخبرنا بالقراءة على الشَّيخ. قال الخطيب: ثمَّ بعد أخبرنا أنبأنا، ونبأنا، وهو قليل في الاستعمال. قال الشَّيخ ابن الصَّلاح: حدَّثنا، وأخبرنا أرفع من سمعتُ من جهة أُخرى، إذ ليسَ في سمعتُ دلالة على أنَّ الشَّيخ رواه - بالتَّشديد – إيَّاه وخاطبه به بخلافهما فإنَّ فيهما دلالة على ذلك. وقد سألَ الخَطيب شيخهُ الحافظ أبا بكر البَرْقاني عن السرِّ في كونه يَقُول لهم، فيما رواهُ عن أبي القَاسم الآبندوي: سمعتُ، ولا يقول: حدَّثنا، ولا أخبرنَا، فذكر له أنَّ أبا القاسم كان مع ثقتهِ وصَلاحه عسرًا في الرِّواية، فكان البَرْقاني يجلس، بحيث لا يراه أبو القاسم، ولا يعلم بحضُوره، فيسمع منهُ ما يُحدِّث به الشَّخص الدَّاخل إليه، فلذلكَ يقول: سمعتُ، ولا يَقُول: حدَّثنا، ولا أخبرنا، لأنَّ قصدهُ كان الرِّواية للدَّاخل إليه وحده. قال الزَّركشى: والصَّحيح التفصيل، وهو أنَّ حدَّثنا أرْفع، إن حدَّثه على العُموم، وسعتُ إن حدَّثه على الخُصُوص. وكذا قال القَسْطلانى في «المنهج». وَأمَّا قال لنَا فُلان، أو ذكَرَ لنا، فَكَحَدَّثَنَا، غير أنَّهُ لائق بِسَمَاعِِ المُذَاكَرَةِ، وهو بهِ أشْبَهُ من حدَّثنا، وأوضَحُ العِبَارَاتِ: قال، أو ذكَرَ، من غير لِي، أو لنا، وهو أيضًا مَحْمُولٌ على السَّماعِ إذا عُرِفَ اللِّقَاءُ على ما تقدَّمَ في نوعِ المُعضَلِ، لا سيما إن عُرِفَ أنَّهُ لا يَقُولُ قال، إلاَّ فِيمَا سَمعَهُ مِنْهُ، وَخَصَّ الخَطِيبُ حَمْلهُ عَلَى السَّمَاعِ به، والمَعْرُوفُ أنَّهُ ليسَ بشَرطٍ. وأمَّا قالَ لنَا فُلان أو قال لي أو ذكر لنا أو ذُكر لي فكحدَّثنا في أنَّه مُتَّصل غير أنَّه لائق بسماع المُذاكرة، وهو به أشبه من حدَّثنا. وأوضح العبارات: قال، أو ذكر من غير لي، أو لنا، وهو مع ذلك أيضًا محمول على السَّماع، إذا عُرف اللِّقاء وسلم من التَّدليس على ما تقدَّم في نوع المُعْضل في الكلام على العنعنة لا سيما إن عرف من حاله لأنَّه لا يقول: قال إلاَّ فيما سمعهُ منه كحجَّاج بن محمَّد الأعور، روى كُتب ابن جُريج عنه بلفظ: قال ابن جُريج، فحملها النَّاس عنه، واحتجُّوا بها. وخصَّ الخَطِيب حملهُ على السَّماع به أي: بمن عرف منهُ ذلك، بخلاف من لا يعرف ذلك منه، فلا يحمله على السَّماع والمعروف أنَّه ليسَ بشرط. وأفْرَط ابن مَنده فقال: حيث قال البُخَاري: قال لنا، فهو إجَازة، وحيث قال: قال فُلان، فهو تدليس. وردَّ العلماء عليه ذلك ولم يقبلوه.
القسم الثَّاني من أقسام التحمُّل القراءة على الشيخ، ويُسميها أكثر المُحدِّثين عرضاً من حيث أن القارئ يعرض على الشَّيخ ما يقرؤه، كما يعرض القُران على المُقرئ. لكن قال شيخ الإسلام ابن حجر في «شرح البخاري»: بين القِرَاءة، والعرض عُمومٌ وخُصُوص، لأنَّ الطَّالب إذا قرأ، كان أعم من العرض وغيره، ولا يقع العرض إلاَّ بالقراءة، لأنَّ العرض عِبَارة عمَّا يعرض به الطَّالب أصل شيخه معه، أو مع غيره بِحْضرته، فهو أخص من القِرَاءة. انتهى. سَوَاء قَرَأتَ، أو قَرَأَ غَيرُكَ وَأَنتَ تَسمَعُ، من كتَابٍ، أَو حفْظٍ، حَفِظَ الشَّيخُ أَم لا، إذَا أمسَكَ أصْلَه، هُوَ أو ثِقَةٌ. سواء قرأتَ عليه بنفسك أو قرأ غيرك عليه وأنتَ تسمع وسواء كانت القراءة منك، أو من غيرك من كتاب، أو حفظ وسواء في الصور الأربع حفظ الشَّيخ ما قُرئ، عليه أم لا، إذَا أمسك أصلهُ هو، أو ثقة غيره كما سيأتي. قال العِرَاقي: وهكذا إن كان ثقة من السَّامعين يحفظ ما قُرئ، وهو مستمع غير غافل، فذاكَ كاف أيضًا. قال: ولم يذكر ابن الصَّلاح هذه المَسْألة، والحكم فيها مُتَّجه، ولا فرق بين إمْسَاك الثِّقة لأصل الشَّيخ، وبين حفظ الثِّقة لِمَا يقرأ، وقد رأيتُ غير واحد من أهل الحديث وغيرهم اكتفى بذلك. انتهى. وقال شيخ الإسلام: ينبغي ترجيح الإمْسَاك في الصور كلها على الحِفْظ، لأنَّه خوَّان. وشرط الإمام أحمد في القارئ أن يَكُون مِمَّن يعرف ويفهم. وشرط إمام الحرمين في الشَّيخ أن يَكُون بحيث لو فُرِضَ من القارئ تحريف، أو تصحيف لردَّه، وإلاَّ فلا يصح التحمُّل بها. وَهِيَ رِوَايَةٌ صَحِيحَةٌ بِلا خِلافٍ في جَمِيع ذَلِكَ إلاَّ ما حُكِيَ عن بَعْض من لا يُعْتَدُّ بِهِ. وهي أي الرِّواية بالقراءة بشرطها رِوَاية صحيحةٌ بلا خِلاف في جميع ذلك، إلاَّ ما حُكِيَ عن بعض من لا يُعتد به إن ثبت عنه، وهو أبو عاصم النَّبيل، رواه الرامهرمزي عنه. وروى الخطيب، عن وكيع قال: ما أخذتُ حديثاً قط عرضًا. وعن محمَّد بن سلام: أنَّه أدركَ مالكًا، والنَّاس يقرؤون عليه، فلم يسمع منه لذلك، وكذلك عبد الرَّحمن بن سلام الجُمَحي لم يكتف بذلك، فقال مالك: أخرجُوه عنِّي. وممَّن قال بصحَّتها من الصَّحابة فيما رواه البَيْهقى في «المدخل»: أنس، وابن عبَّاس، وأبو هُريرة. ومن التَّابعين: ابن المُسيب، وأبو سلمة، والقاسم بن محمَّد، وسالم بن عبد الله، وخارجة بن زيد، وسُليمان بن يَسَار، وابن هُرمز، وعطاء، ونافع، وعُروة، والشَّعبي، والزُّهري، ومَكْحول، والحسن، ومنصور، وأيُّوب. ومن الأئمة: ابن جُريج، والثَّوري، وابن أبي ذئب، وشُعبة، والأئمة الأربعة، وابن مهدى، وشَرِيك، واللَّيث، وأبو عُبيد، والبُخَاري في خلقٍ لا يُحْصون كثرة. وروى الخَطِيب عن إبراهيم بن سعد أنَّه قال: لا تدعون تنطُعكم يا أهل العِرَاق! العرض مثلَ السَّماع. واستدلَّ الحُميدي، ثمَّ البخاري على ذلك بحديث ضمام بن ثعلبة: لمَّا أتى النَّبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: إنِّي سائلكُ فمُشدِّد عليك، ثمَّ قال: أسألكَ بربِّك ورب من قبلكَ، آلله أرسلكَ... الحديث. في سؤاله عن شرائع الدِّين، فلمَّا فرغ قال: آمنتُ بمَا جئتَ به، وأنَا رَسُول من ورائي، فلمَّا رجعَ إلى قومهِ اجتمعُوا إليه، فأبْلَغهم فأجَازُوه، أي: قبلُوه منهُ وأسْلمُوا. وأسندَ البيهقي في «المدخل» عن البُخَاري، قال: قال أبو سعيد الحدَّاد: عندي خبر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في القِرَاءة على العالم. فقيلَ له: قِصَّة ضمام، آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. وَاختَلَفُوا في مُسَاوَاتِهَا للسَّمَاعِ من لَفظِ الشَّيخِ، ورُجْحَانِهِ عَلَيْهَا، وَرُجْحَانِهَا عَلَيْهِ، فَحُكِيَ الأوَّلُ عن مالكٍ، وأصحَابِهِ، وأشياخه، ومعظَم عُلمَاءِ الحِجَازِ، والكُوفَةِ، والبُخَارِيِّ، وغَيْرِهِم. واختلفوا في مُسَاواتها للسَّماع من لفظ الشَّيخ في المرتبة ورُجحانه عليها، ورجحانها عليه على ثلاثة مذاهب: فَحُكِيَ الأوَّل : وهو المُسَاواة عن مالك، وأصحابه، وأشياخه من عُلماء المدينة ومُعظم عُلماء الحِجَاز، والكُوفة، والبُخَاري، وغيرهم. وحكاهُ الرَّامهرمزي، عن على بن أبي طالب، وابن عبَّاس، ثمَّ روى عن عليِّ: القِرَاءةُ على العالم بمنزلة السَّماع منهُ. وعن ابن عبَّاس قال: اقرؤوا عليَّ، فإنَّ قراءتكم عليَّ، كقراءتي عليكم. رواه البيهقي في «المدخل». وحكاهُ أبو بكر الصَّيرفي، عن الشَّافعي. قُلتُ: وعندي أنَّ هؤلاء لمَّا ذكروا المُسَاواة في صحَّة الأخذ بها، ردًّا على من كان أنكرها لا في اتِّحاد المَرْتبة. أسندَ الخَطيب في «الكفاية» من طريق ابن وهب قال: سمعتُ مالكًا، وسُئل عن الكُتب التي تُعرض عليه، أيقول الرَّجل حدَّثني؟ قال: نعم، كذلك القُران، أليس الرَّجُل يقرأ على الرَّجل فيَقُول: أقْرأني فُلان. وأسند الحاكم في «عُلوم الحديث» عن مُطَرِّف قال: سعتُ مالكاً يأبى أشد الإباء على من يقول: لا يُجزئه إلاَّ السَّماع من لَفْظِ الشَّيخ، ويقول: كيف لا يجزئك هذا في الحديث، ويجزئك في القُرآن، والقُران أعظم. والثَّانِي: عن جُمْهُورِ أهلِ المَشْرِقِ، وهو الصَّحِيحُ. والثَّالِثُ: عن أبي حَنيفَةَ، وابن أبي ذئبٍ، وَغَيْرِهِمَا، وروَايةٌ عن مَالِكٍ. و حكي الثَّاني وهو ترجيح السَّماع عليها عن جُمهور أهل المشرق، وهو الصَّحيح. و حكى الثَّالث وهو ترجيحها عليه عن أبي حنيفة، وابن أبي ذئب، وغيرهما، و هو رواية عن مالك حكاها عنه الدَّارقُطْي، وابن فارس، والخطيب. وحكاهُ الدَّارقُطْني أيضًا عن الليث بن سعد، وشُعبة، وابن لَهيعة، ويحيى بن سعيد، ويحيى بن عبد الله بن بُكَير، والعبَّاس بن الوليد بن مَزْيد، وأبي الوليد، وموسى بن داود الضَّبي، وأبي عُبيد، وأبي حاتم. وحكاهُ ابن فارس عن ابن جُريج، والحسن بن عمارة. وروى البيهقي في «المَدْخل» عن مَكِّي بن إبراهيم قال: كان ابن جُريج وعُثمان بن الأسود، وحَنْظلة بن أبي سُفيان، وطلحة بن عَمرو، ومالك، ومحمَّد بن إسحاق، وسُفيان الثَّوري، وأبو حنيفة، وهِشَام، وابن أبي ذئب، وسعيد بن أبي عَرُوبة، والمُثنى بن الصَّباح، يقولون: قراءتُك على العالم، خيرٌ من قِرَاءة العالم عليكَ، واعتلُّوا بأنَّ الشَّيخ لو غلط لم يتهيأ للطَّالب الرَّد عليه. وعن أبي عُبيد: القِرَاءة عليَّ، أثبتُ من أن أتولى القِرَاءة أنا. وقال صاحب البَدِيع، بعد اختياره التَّسوية: محل الخِلاف ما إذَا قرأ الشَّيخ في كِتَابه، لأنَّه قد يسهو، فلا فرقَ بينهُ وبين القِرَاءة عليه، أمَّا إذا قرأ الشَّيخ من حفظه، فهو أعلى بالاتفاق. واختار شيخ الإسْلام: أنَّ محل ترجيح السَّماع ما إذا استوى الشَّيخ والطَّالب، أو كان الطَّالب أعلم، لأنَّه أوْعَى لما يَسْمع، فإن كان مَفْضُولاً، فقراءته أوْلَى، لأنَّها أضْبط له. قال: ولهذَا كان السَّماع من لفظهِ في الإملاء أرفع الدَّرجات، لِمَا يلزم منهُ من تحرير الشَّيخ والطَّالب، وصرَّح كثيرون بأن القِرَاءة بنفسه أعْلى مرتبة من السَّماع بقراءة غيره. وقال الزَّركشي: القارئ، والمُستمع سواء. والأحوَطُ في الرِّوَايَةِ بها: قَرَأتُ على فُلانٍ، أو قُرِئ وأنا أسمَعُ فأقرَّ بهِ، ثُمَّ عِبَارَاتُ السَّمَاع مُقَيَّدَةً: كَحَدَّثَنَا، أو أخبَرَنَا قراءةً عليهِ، وأنشَدَنَا في الشِّعْرِ قراءةً عليهِ، ومنعَ إطلاقَ حدَّثَنَا، وأخبرَنَا، ابن المُبَارَكِ، ويَحيَى بن يَحْيىَ التَّمِيميُّ، وأحمدُ بن حَنْبَل، والنَّسَائِيُّ وغيرُهُم. والأحوط الأجود في الرِّواية بها أن يقول: قرأتُ على فُلان إن قرأ بنفسه أو قرئ عليه وأنا أسمع، فأقرَّ به، ثمَّ تلي ذلك عبارات السَّماع مُقيدة بالقِرَاءة، لا مُطْلقة كحدَّثنا بقراءتي، أو قِرَاءة عليه وأنا أسمع أو أخبرنا بقراءتي، أو قراءة عليه وأنا أسمع، أو أنبأنا، أو نبأنا، أو قال لنا كذلك وأنشدنا في الشِّعر قراءة عليه، ومنع إطلاق حدثنا وأخبرنا هنا عبد الله ابن المُبَارك، ويحيى بن يحيى التَّميمي، وأحمد بن حنبل، والنَّسائي، وغيرهم. قال الخطيب: وهو مَذْهب خلق كثير من أصْحَاب الحديث. وجوَّزَهَا طَائِفَة، قيلَ: إنَّهُ مذهَبُ الزُّهْرِيِّ، ومالكٍ، وابن عُيَيْنَةَ، ويحيىَ القَطَّانِ، وَالبُخَارِيِّ، وجمَاعَاتٍ من المُحَدِّثِينَ، ومُعظَمِ الحِجَازِيِّينَ والكُوفِيِّينَ. ومنهم من أجَازَ فيهَا سمعتُ، ومنعَتْ طَائِفَةٌ: حدَّثَنَا، وأجَازَتْ: أخبرَنَا، وهو مذهَبُ الشَّافعيِّ وأصحَابِهِ، ومُسلم بن الحجَّاجِ، وجُمهُورِ أهلِ المَشْرِقِ. وجوزها طائفة، قيل: إنَّه مذهب الزُّهري، ومالك بن أنس، وسفيان ابن عُيينة، ويحيى بن سعيد القَطَّان، والبُخَاري، وجَمَاعات من المُحِّدثين، ومُعظم الحِجَازيين، والكُوفيين كالثَّوري، وأبي حنيفة، وصَاحبيه، والنَّضر بن شُميل، ويزيد بن هارون، وأبي عاصم النَّبيل، ووهب بن جرير، وثعلب، والطَّحاوي- وألَّف فيه جُزءًا- وأبي نُعيم الأصبهاني، وحكاهُ عياض عن الأكثرين، وهو رواية عن أحمد. ومنهم من أجاز فيها سمعت أيضًا، ورُوِي عن مالك، والسفيانين، والصَّحيح لا يَجُوز. وممَّن صحَّحه أحمد بن صالح، والقاضى أبو بكر البَاقلاني، وغيرهما. ويقع في عِبَارة السِّلفى في كتابه «التسميع» سمعتُ بقراءتي، وهو إمَّا تسامح في الكِتَابة لا يستعمل في الرِّواية، أو رأي يفصل بين التَّقييد والإطلاق. ومنعت طائفة إطلاق حدَّثنا، وأجازت إطلاق أخبرنا، وهو مذهب الشَّافعى وأصحابه، ومسلم بن الحجَّاج، وجُمهور أهل المشرق. وقيلَ: إنَّهُ مذهَبُ أكثَر المُحَدِّثِينَ، ورُويَ عن ابن جُرَيج، والأوزَاعِيِّ، وابن وَهْبٍ، ورُوِيَ عن النَّسَائيِّ أيضًا، وصَارَ هو الشَّائعُ الغَالِبُ على أهلِ الحديثِ. وقيل: إنَّه مذهب أكثر المحدِّثين عزاه لهم محمد بن الحسن التَّميمي الجوهري في كتاب «الإنصاف» قال: فإنَّ أخبرنا علَم يقوم مقام قائله أنا قرأته عليه، لا أنَّه لَفَظ به لي. ورُوِيَ عن ابن جريج، والأوزاعي، وابن وهب. قال ابن الصَّلاح: وقيل: إنَّه أوَّل من أحدث الفَرْق بين اللَّفظين بِمصر، وهذا يدفعه النقل عن ابن جريج، والأوزاعى، إلاَّ أن يعنى أنَّه أوَّل من فعل ذلك بمصر. ورُوِيَ عن النَّسائي أيضًا، حكاه الجَوْهري المذكور. وقال ابن الصلاح: وصار الفرق بينهما هو الشَّائع الغالب على أهل الحديث وهو اصْطلاح منهم، أرادوا به التَّمييز بين النَّوعين، والاحتجاج له من حيث اللغة فيه عناء وتكلف. قال: ومن أحسن ما حُكِيَ عمَّن ذهب هذا المذهب، ما حكاه البَرْقاني، عن أبي حاتم محمَّد بن يعقوب الهَرَوي، أحد رُؤساء الحديث بخُرَاسان، أنَّه قرأ على بعض الشِّيوخ، عن الفَرْبري «صحيح» البُخارى، وكان يقول له في كلِّ حديث: حدَّثكم الفربري، فلمَّا فرغ الكتاب، سمع الشَّيخ يذكر أنَّه إنَّما سمع الكتاب من الفَرْبري قِرَاءة عليه، فأعادَ قراءة الكتاب كُله، وقال له في جميعه: أخبركم الفربري. قال العِرَاقي: وكأنَّه كان يرى إعَادة السَّند في كل حديث، وهو تشديد، والصَّحيح أنَّه لا يحتاج إليه، كما سيأتي.
فائدةٌ: قَوْل الرَّاوي: أخبرنَا سَمَاعًا، أو قِرَاءة: هو من باب قولهم: أتيتهُ سعيًا، وكلمتهُ مُشَافهة، وللنُّحَاة فيه مذاهب: أحدها: وهو رأي سيبويه: أنَّها مَصَادر وقعت موقع فاعل حالاً، كما وقع المَصْدر موقعه نعتًا في زيد عدل، وأنَّه لا يُسْتعمل منها إلاَّ ما سمع، ولا يُقَاس، فعلى هذا استعمال الصِّيغة المذكورة في الرِّواية ممنوع، لعدم نُطق العرب بذلك. الثَّاني: وهو للمُبرِّد، أنَّها ليست أحْوَالاً، بل مفعُولات لفعل مُضْمر من لفظها، وذلكَ المُضْمر هو الحَال، وأنَّه يُقَال في كلِّ ما دلَّ عليه الفعل المُتقدِّم. وعلى هذا تخرج الصِّيغة المَذْكُورة، بل كلام أبي حيَّان في «تذكرته» يقتضي أنَّ أخبرنا سَماعًا مسموعًا، وأخبرنا قراءة لم يسمع، وأنَّه يُقاس على الأوَّل على هذا القول. الثَّالث: وهر للزَّجاج قال: يقول سيبويه: فلا يضمر لكنَّه مقيس. الرَّابع: وهو للسِّيرافي قال: هو من باب جلست قُعودًا، منصوب بالظَّاهر مصدرًا مَعْنويًا.
فُروعٌ: الأوَّلُ: إذا كانَ أصلُ الشَّيخ حال القرَاءةِ، بيد موثُوقٍ به، مُرَاعٍ لما يَقْرأ، أهلٌ لَهُ، فإن حَفِظَ الشَّيخُ ما يقرأ، فهو كَإمسَاكِهِ أَصلَهُ وَأولَى، وإن لم يحفظ فَقِيلَ: لا يَصِحُّ السَّمَاعُ، والصَّحِيحُ المُختارُ الَّذي عليهِ العَمَلُ أنَّهُ صحيح، فإن كان بيدِ القَارِئ المَوْثُوقِ بدينهِ ومعرفَتِهِ، فأولَى بالتَّصْحِيح، ومتَى كانَ الأصلُ بيدِ غيرِ مَوْثُوقٍ به، لم يَصِحَّ السَّمَاعُ، إن لم يحفظهُ الشَّيخُ. فُروع: الأوَّل: إذا كان أصل الشَّيخ حال القراءة عليه بيد شخص موثوق به غير الشَّيخ مراع لمَا يقرأ، أهل له، فإن حفظ الشيخ ما يقرأ عليه فهو كإمْسَاكه أصله بيده وأوْلَى لتعاضد ذهني شَخْصين عليه. وإن لم يحفظ الشَّيخ ما يُقرأ عليه فقيل: لا يصح السَّماع حكاه القاضي عياض عن الباقلاني، وإمام الحرمين. والصَّحيح المُختار الَّذي عليه العمل بين الشِّيوخ وأهل الحديث كافة أنَّه صحيح. قال السَّلفي: على هذا عهدنا عُلماءنا عن آخرهم. فإن كان أصل الشَّيخ بيد القارئ الموثُوق بدينه ومعرفته يقرأ فيه، والشيخ لا يحفظه فأولى بالتَّصحيح خلافاً لبعض أهل التشديد. ومتى كان الأصل بيد غير موثوق به القارئ، أو غيره، ولا يؤمن إهماله لم يصح السَّماع إن لم يحفظه الشَّيخ. الثَّاني: إذا قرَأ على الشَّيخ قائِلاً: أخبركَ فُلان، أو نحوهُ، والشَّيخُ مُصْغٍ إليه، فاهمٌ لهُ، غير مُنْكرٍ، صَحَّ السَّمَاع، وجازَتِ الرِّوَايَةُ به، ولا يُشْتَرَطُ نُطقُ الشَّيخِ، على الصَّحيحِ الَّذي قطعَ به جماهِيرُ أصحَابِ الفُنُونِ. الثَّاني: إذا قرأ على الشَّيخ، قائلاً أخبركَ فُلان أو نحوه كقلت: أخبرنا فُلان والشَّيخ مُصغ إليه، فاهم له غير منكر ولا مقر لفظًا صحَّ السَّماع، وجازت الرِّواية به اكتفاء بالقرائن الظَّاهرة. ولا يشترط نُطق الشَّيخ بالإقرار، كقوله: نعم على الصَّحيح الَّذي قطع به جماهير أصحاب الفُنون الحديث، والفقه والأُصول. وشَرَطَ بعضُ الشَّافِعيِّينَ والظَّاهِريِّينَ نُطقَهُ، وقالَ ابن الصبَّاغِ الشَّافعيُّ: ليسَ له أن يقولَ: حدَّثني، ولهُ أن يَعْمَلَ به، وأن يروِيَهُ، قائلاً: قُرِئ عَلَيْهِ وهو يسمَعُ. وشرط بعض الشَّافعيين كالشَّيخ أبي إسحاق الشِّيرازى، وابن الصَّباغ، وسليم الرَّازي و بعض الظَّاهريين المُقَلدين لداود الظَّاهري نُطقه به. وقال ابن الصبَّاغ الشَّافعي من المُشترطين: ليس له إذا رواه عنه أن يقُول حدَّثنى ولا أخبرني وله أن يعمل به أي: بما قُرئ عليه وأن يرويه قائلاً قرأتُ عليه، أو قُرئ عليه وهو يسمع. وصحَّحه الغزالي، والآمدي، وحكاه عن المتكلمين، وحكى تجويز ذلك عن الفُقهاء والمُحدِّثين، وحكاهُ الحاكم عن الأئمة الأربعة، وصحَّحه ابن الحاجب. وقال الزَّركشى: يُشْترط أن يَكُون سُكوته لا عن غَفْلة، أو إكراه، وفيه نظر. ولو أشَار الشَّيخ برأسه، أو أصبعه للإقْرَار، ولم يتلفظ، فجزم في «المحصول» بأنَّه لا يقول: حدَّثني ولا أخبرني. قال العِرَاقيُّ: وفيه نظر. الثَّالثُ: قال الحَاكِمُ: الَّذي أختَارُهُ، وعَهِدْتُ عليهِ أكْثَرَ مشَايخي، وأئمَّةِ عصري أن يقول فيما سَمِعَهُ وحدَهُ من لفظِ الشَّيخ: حَدَّثني، وَمَعَ غَيْرِهِ: حدَّثَنَا، وَمَا قَرَأ عَلَيْهِ: أخْبَرَنِي، وَمَا قُرِئ بحَضترتِهِ: أخْبَرَنا، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عن ابن وَهْبٍ، وَهُو حَسَنٌ، فَإن شَكَّ فالأظْهَرُ أن يَقُولَ: حَدَّثَنِي، أو يَقولَ: أخْبَرَني، لا حَدَّثنَا وَأخْبَرَنَا. الثَّالث: قال الحاكم: الَّذي أختاره أنا في الرِّواية وعهدتُ عليه أكثر مشايخي، وأئمة عَصْري أن يقول الرَّاوي فيما سمعهُ وحده من لفظ الشَّيخ: حدَّثني بالإفراد و فيما سمعهُ منه مع غيره حدَّثنا بالجمع وما قرأ عليه بنفسه أخبرني، وما قرئ على المُحدِّث بحَضْرته أخبرنا. ورُوي نحوه عن عبد الله ابن وهب صاحب مالك، روى التِّرمذي عنه في «العلل»: قال: ما قلت: حدَّثنا، فهو ما سمعتُ مع النَّاس، وما قلت: حدَّثني، فهو ما سمعتُ وحدي، وما قلتُ: أخبرنا، فهو ما قُرئ على العالم وأنا شاهد، وما قلتُ: أخبرني، فهو ما قرأتُ على العالم. ورواه البَيْهقى في «المدخل» عن سعيد بن أبي مريم، وقال: عليه أدركتُ مشايخنا. وهو معنى قول الشَّافعي وأحمد. قال ابن الصَّلاح: وهو حسن رائق. قال العِرَاقي: وفي كلامهما أنَّ القارئ يقول: أخبرني، سواء سمعهُ معه غيره أم لا. وقال ابن دقيق العيد في «الاقتراح»: إن كان معه غيره قال: أخبرنا، فسَوَّى بين مسألتي التحديث والإخبار. قلتُ: الأوَّل أولى، ليتميز ما قرأهُ بنفسه، وما سمعهُ بقراءة غيره. فإن شكَّ الرَّاوي هل كان وحده حالة التحمُّل فالأظهر أن يَقُول: حدَّثني، أو يقول: أخبرني، لا حدَّثنا، وأخبرنا لأنَّ الأصل عدم غيره، وأمَّا إذا شكَّ هل قرأ بنفسه، أو سمع بقراءة غيره. قال العِرَاقي: فقد جمعها ابن الصَّلاح مع المَسْألة الأولى، وأنَّه يقول: أخبرني، لأنَّ عدم غيره هو الأصل. وفيه نظر، لأنَّه يحقق سَمَاع نفسه، ويشك هل قرأ بنفسه، والأصل أنَّه لم يقرأ. وقد حكى الخطيب في «الكفاية» عن البَرْقانى: أنَّه كان يَشُك في ذلك، فيقول: قرأنا على فُلان. قال: وهذا حسن، لأنَّ ذلك يُسْتعمل فيما قرأهُ غيره أيضًا، كما قالهُ: أحمد بن صالح والنُّفَيلى. وقد اختارَ يحيى بن سعيد القَطَّان في شبه المَسْألة الأولى الإتيان بحدَّثنا، وذلك إذا شكَّ في لفظ شيخه، هل قال: حدَّثني، أو حدَّثنا. ووجهه: أنَّ حدَّثني أكمل مَرْتبة، فيقتصر في حالة الشَّك على الناقص، ومُقتضاه قول ذلك أيضًا في المَسْألة الأولى، إلاَّ أنَّ البَيْهقي اختارَ في مسألة القَطَّان أن يُوحِّد. وكُلُّ هذا مستحَبٌ باتِّفَاقِ العُلَمَاءِ، ولا يَجُوزُ إبدَالُ: حدَّثنا بأخبرنا، أو عَكْسُهُ في الكُتُبِ المُؤَلَّفَةِ، وما سَمِعْتُهُ من لفظِ المُحَدِّثِ، فهو على الخِلافِ في الرِّوَايَة بالمعنَى، إن كان قائلُهُ يُجَوِّز إطْلاقَ كليهما، وإلاَّ فَلا يَجُوزُ. وكل هذا مُستحب باتِّفاق العُلماء لا واجب. ولا يَجُوز إبْدَال: حدَّثنا بأخبرنا، أو عكسه في الكتب المؤلفة وإن كان في إقَامة أحدهما مقام الآخر خلاف، لا في نفس ذلكَ التَّصنيف، بأن يُغير، ولا فيما ينقل منهُ إلى الأجزاء والتخاريج. وما سمعتهُ من لَفْظ المُحدِّث فهو أي: إبداله على الخِلاف في الرِّواية بالمعنى فإن جوَّزناها، جَاز الإبدال إن كان قائله يرى التَّسوية بينهما، و يجوز إطْلاق كليهما بمعنى وإلاَّ فلا يجوز إبدال ما وقع منه. ومنع ابن حنبل الإبدال جزمًا.
فائدةٌ: عقد الرَّامهرمزي أبوابًا في تنويع الألفاظ السَّابقة: منها: الإتيان بلفظ الشَّهادة، كقول أبي سعيد: أشْهدُ على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه نهى عن الجرِّ أن يُنتبذ فيه. وقول عبد الله بن طاووس: أشهدُ على والدي أنَّه قال: أشهد على جابر بن عبد الله، أنَّه قال: أشْهدُ على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «أُمرتُ أن أُقاتل النَّاس...» الحديث. وقول ابن عبَّاس: شَهِدَ عندي رِجَالٌ مَرْضيون، وأرْضَاهم عِنْدي عُمر... الحديث، في الصَّلاة بعد العصر وبعد الصبح. ومنها: تقديم الاسم فيقول: فُلان حدَّثنا، أو أخبرنا. ومنها: سمعت فلانا يأثر عن فُلان. ومنها: قلتُ لفلان: أحدثك فُلان، أو اكتتبت عن فُلان؟ ومنها: زعم لنا فُلان عن فُلان. ومنها: حدَّثني فُلان، ورد ذلك إليَّ فُلان. ومنها: دلَّني فُلان على ما دلَّ عليه فُلان. ومنها: سألتُ فُلانًا، فألجأ الحديث إلى فُلان. ومنها: خُذ عنِّي، كما أخذته عن فُلان. وساق لكل لفظة من هذه أمثلة. الرَّابع: إذا نسخَ السَّامع أو المُسمع حال القِرَاءة، فقال إبراهيم الحَرْبيُّ، وابن عَدي، والأسْتَاذ أبو إسْحَاق الإسْفرايني الشَّافعي: لا يَصحُّ السَّماع، وصَحَّحه الحافظ مُوسى بن هارون الحَمَّال وآخَرُون. الرَّابع: إذا نسخَ السَّامع أو المسمع حال القراءة، فقال إبراهيم بن إسْحَاق بن بَشِير الحَرْبي الشَّافعي و الحافظ أبو احمد ابن عَدي والأستاذ أبو إسحاق الإسْفرايني الشَّافعي وغير واحد من الأئمة لا يصح السَّماع مُطْلقا. نقلهُ الخَطيب في «الكفاية» عنه، وزاد عن أبي الحسن بن سمعون. و صحَّحه أي السماع الحافظ مُوسى بن هارون الحَمَّال وآخرون مُطلقًا، وقد كتب أبو حاتم حالة السَّماع عند عارم، وكتب عبد الله بن المبارك، وهو يقرأ عليه. وقال أبو بكر الصِّبغيُّ الشَّافعيُّ: يَقُول حضرتُ، ولا يَقُول أخبرنا، والصَّحيح التَّفصيل، فإن فُهم المقرُوء صَحَّ، وإلاَّ لَمْ يصح. وقال أبو بكر أحمد بن إسحاق الصبغي الشَّافعي: يقول في الأداء: حضرتُ، ولا يقول : حدَّثنا ولا أخبرنا. والصَّحيح التَّفصيل، فإن فهم النَّاسخ المقروء صحَّ السَّماع وإلاَّ أي: وإن لم يفهمه لم يصح. وقد حضر الدَّارقطني بمجلس إسماعيل الصفَّار، فجلس ينسخ جُزءًا كان معه، وإسماعيل يُملي، فقال له بعض الحاضرين: لا يصح سماعكَ وأنتَ تنسخ. فقال: فهمي للإملاء خلاف فهمك. ثمَّ قال: تحفظ كم أمْلَى الشَّيخ من حديث إلى الآن؟ فقال: لا. فقال الدَّارقُطْني: أملى ثمانية عشر حديثا. فعُدَّت الأحاديث فوُجدت كما قال. ثمَّ قال: الحديث الأوَّل عن فُلان عن فُلان، ومتنه كذا، والحديث الثَّاني عن فُلان عن فُلان، ومتنه كذا، ولم يزل يذكر أسانيد الأحاديث ومُتونها على ترتيبها في الإملاء، حتَّى أتَى على آخرها، فعجب النَّاس منه. قلت: ويُشبه هذا ما رُوي عنه أيضًا أنَّه كان يُصلِّي، والقارئ يقرأ عليه، فمرَّ حديثٌ فيه نُسير بن ذعلوق، فقال القارئ: بشير، فسبَّح، فقال: يُسير، فتلا الدَّارقطني {ن وَالْقَلَمِ}. وقال حمزة بن محمَّد بن طاهر: كُنت عِندَ الدَّارقُطْني وهو قائم يتنفَّل، فقرأ عليه القارئ: عَمرو بن شُعيب، فقال عَمرو بن سعيد، فسبَّح الدَّارقطني، فأعادهُ ووقف، فتلا الدَّارقُطْني: {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ} [هود: 87]. ويَجْري هذا الخِلافُ فيما إذا تَحدَّث الشَّيخ أو السَّامع، أو أفْرطَ القَارئ في الإسْراعِ، أو هَيْنمَ القَارئ، أو بَعُدَ بحيث لا يفهمُ، والظَّاهر أنَّهُ يُعفَى عن نحو الكَلمتين، ويُسْتحب للشَّيخ أن يُجيز للسَّامعين رِوَاية ذَلك الكِتَاب، وإن كتبَ لأحَدَهم كتبَ: سمعهُ منِّي، وأجَزتُ لهُ رِوَايتهُ، كَذَا فعلَ بعضهُم. ويَجْري هذا الخلاف والتَّفصيل فيما إذا تحدَّث الشَّيخ أو السَّامع، أو أفرط القارئ في الإسراع بحيث يخفي بعض الكلام أو هينم القارئ أي أخفى صوته أو بَعُد السَّامع بحيث لا يُفهم المقروء والظَّاهر أنَّه يعفى في ذلك عن القدر اليسير الَّذي لا يخل عدم سماعه بفهم الباقي نحو الكلمة و الكلمتين. ويُستحب للشَّيخ أن يُجيز للسَّامعين رِوَاية ذلك الكِتَاب أو الجُزء الَّذي سمعُوه وإن شَملهُ السَّماع، لاحتمال وقُوع شيء مِمَّا تقدَّم من الحديث والعَجَلة والهينمة فينجبر بذلك. وإن كتبَ الشَّيخ لأحدهم كتب: سمعهُ مِنِّي وأجزتُ له روايته، كذا فعل بعضهم. قال ابن عتَّاب الأندلسي: لا غنى في السَّماع عن الإجَازة، لأنَّه قد يَغْلط القارئ، ويغفل الشَّيخ أو السَّامعون، فينجبر ذلك بالإجَازة، وينبغي لكاتب الطباق أن يكتب إجازة الشَّيخ عقب كتابة السَّماع. قال العِرَاقيُّ: ويُقال: إنَّ أوَّل من فعلَ ذلك أبو طاهر إسْمَاعيل بن عبد المُحسن الأنْمَاطي، فجزاه الله خيرًا في سَنِّه ذلك لأهل الحديث، فلقد حصل به نفع كبير، ولقد انقطع بسبب ترك ذلك وإهماله، اتِّصال بعض الكُتب في بعض البلاد، بسبب كون بعضهم كان له فوت، ولم يذكر في طبقة السَّماع إجازة الشَّيخ لهم، فاتَّفق أن كان بعض المفوتين آخر من بقي ممَّن سمع بعض ذلك الكتاب، فتعذَّر قِرَاءة جميع الكتاب عليه، كأبي الحَسَن بن الصوَّاف الشَّاطبي راوي غالب النَّسائي عن ابن باقا. ولو عَظُم مَجْلسُ المُمْلي، فَبَلَّغ عنهُ المُسْتملي، فذهبَ جَمَاعةٌ من المُتقدِّمين وغيرهم إلى أنَّهُ يَجُوز لمن سمِعَ المُسْتملي أن يَرْوي ذلك عن المُمْلي، والصَّواب الَّذي قالهُ المُحقِّقون: أنَّه لا يَجُوز ذلك. ولو عَظُم مجلس المُملي، فبلَّغ عنه المُسْتملي، فذهب جماعة من المتقدِّمين وغيرهم إلى أنَّه يَجُوز لمن سمع المُستملي أن يروي ذلك عن المُملي. فعن ابن عُيينة، أنَّه قال له أبو مسلم المُسْتملي: إنَّ النَّاس كثير لا يسمعون، قال: أسْمعهُم أنت. وقال الأعمش: كُنَّا نجلس إلى إبراهيم النَّخعي مع الحلقة، فربَّما يُحدِّث بالحديث فلا يسمعهُ من تنحَّى عنهُ فيَسْأل بعضهم بعضًا عمَّا قال، ثمَّ يروونه، وما سمعوه منه. وعن حمَّاد بن زيد، أنَّه قال لمن استفهمهُ: كيفَ قُلت؟ قال: اسْتفهم من يليك. قال ابن الصَّلاح: وهذا تَسَاهلٌ مِمَّن فعلهُ والصَّواب الَّذي قاله المُحققون: أنَّه لا يَجُوز ذلك. وقال العِرَاقيُّ في الأوَّل: هو الَّذي عليه العمل، لأنَّ المُستملي في حُكم من يقرأ على الشَّيخ ويعرض حديثه عليه، ولكن يُشترط أن يسمع الشَّيخ المُمْلي لفظ المُسْتملي، كالقارئ عليه، والأحوط أن يُبين حالة الأدَاء أنَّ سماعه لذلك، أو لبعض الألفاظ من المُسْتملي، كما فعلهُ ابن خُزيمة وغيره، بأن يقول: أخبرنا بتبليغ فُلان. وقد ثبتَ في «الصَّحيحين» عن جابر بن سَمُرة: سمعتُ النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يَكُون اثْنَا عشر أميرًا...» فقال كَلمة لم أسْمَعها، فسألت أبي فقال: «كُلهم من قُرَيش». وقد أخرجهُ مسلم عنه كاملاً من غير أن يفصل جابر الكَلمة الَّتي استفهمها من أبيه. وقال أحمدُ في الحَرْف يدغمهُ الشَّيخ فلا يُفْهم، وهو معروفٌ: أرجُو أن لا يضيق روايتهُ عنهُ، وقال في الكَلمةِ تُسْتفهم من المُسْتملي: إن كانت مُجْتمعًا عليها فلا بأسَ، وعن خَلَف بن سالم مَنْعُ ذلكَ. وقال أحمد بن حنبل في الحرف الَّذي يدغمهُ الشَّيخ فلا يفهم عنه وهو معروف: أرجو أن لا يضيق روايته عنه. وقال في الكلمة تُستفهم من المُستملى: إن كانت مُجتمعًا عليها فلا بأس بروايتها عنه. وعن خلف بن سالم المخرمي منع ذلك فإنَّه قال: سمعتُ ابن عُيينة يقول: نا عَمرو بن دينار، يريد حدَّثنا، فإذا قيل له: قُل حدَّثنا، قال: لا أقول، لأنِّي لم أسمع من قوله حدَّثنا ثلاثة أحرف لكثرة الزِّحام، وهي: ح د ث. وقال خلف بن تميم: سمعتُ من الثَّوري عشرة آلاف حديث أو نحوها، فكنتُ أستفهم جليسي، فقلت لزائدة، فقال: لا تُحدِّث منها إلاَّ بما حفظَ قلبك، وسمع أذنك، فألقيتها. الخامسُ: يَصحُّ السَّماع من وراء حِجَاب إذا عرف صوتهُ إن حدَّث بلفظهِ، أو حُضُوره بِمَسْمعٍ منهُ إن قُرئ عليه، ويكفي في المَعْرفة خبرُ ثقةٍ، وشرطَ شُعبة رؤيتهُ، وهو خِلاف الصَّواب وقَوْل الجمهُور. الخَامس: يصح السَّماع مِمَّن هو وراء حجاب إذا عرف صوتهُ إن حدَّث بلفظه، أو عرف حضوره بمسمع أي: مكان يسمع منه إن قرئ عليه، ويكفي في المعرفة بذلك خبر ثقة من أهل الخبرة بالشَّيخ وشرط شعبة رؤيته وقال: إذا حدَّثك المُحدِّث، فلم تر وجههُ، فلا ترو عنهُ، فلعلهُ شيطانٌ قد تصوَّر في صُورته يقول: حدثنا وأخبرنا. وهو خِلاف الصَّواب وقول الجمهور فقد أمرَ النَّبي صلى الله عليه وسلم بالاعْتماد على سماع صَوْت ابن أمِّ مَكْتُوم المؤذن في حديث: «إنَّ بلالاً يُؤذِّن بليل...» الحديث مع غَيْبة شخصهِ عمَّن يَسْمعهُ، وكان السَّلف يسمعُون من عَائشة وغيرها من أمَّهات المؤمنين، وهُنَّ يُحدِّثن من وراء حجاب. السَّادس: إذا قال المُسمع عند السَّماع: لا ترو عنِّي، أو رجعتُ عن إخْبَارك، ونحو ذلك، غيرَ مُسْند ذلكَ إلى خطأ، أو شَكٍّ، ونحوه، لم تمتنع روايتهُ، ولو خصَّ بالسَّماع قومًا، فسمعَ غيرُهُم بغيرِ عِلْمه، جَازَ لهم الرِّواية عنهُ، ولو قال أُخْبركُم، ولا أُخبر فُلانًا، لم يَضُر، قالهُ الأستاذ أبو إسْحَاق. السَّادس: إذا قال المُسْمع بعد السَّماع: لا ترو عنِّي، أو رجعت عن إخباركَ أو ما أذنت لك في روايته عنِّي ونحو ذلك، غير مُسْند ذلك إلى خطأ منه، فيما حدَّث به أو شكَّ فيه ونحوه لم تمتنع روايته فإن أسندهُ إلى نحو ما ذكر امتنعت. ولو خصَّ بالسَّماع قومًا، فسمعَ غيرهم بغير علمه، جازَ لهم الرِّواية عنهُ ولو قال: أُخبركم، ولا أُخبر فلانًا لم يضر ذلك فلانًا في صحَّة سماعه قالهُ الأستاذ أبو إسْحَاق الإسْفرايني جوابًا لسؤال الحافظ أبي سعيد النَيْسابُوري عن ذلك.
فائدةٌ: قال المَاوردي: يُشترط كون المُتحمل بالسَّماع سميعًا، ويَجُوز أن يقرأ الأصم بنفسه.
|